فصل: غلط البصر من أجل خروج صحة البصر عن عرض الاعتدال:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المناظر (نسخة منقحة)



.الحسن والقبح:

وقد يعرض الغلط في الحسن والقبح أيضاً من أجل خروج الزمان عن عرض الاعتدال. وذلك أن البصر إذا لمح مبصراً من المبصرات كشخص إنسان، وكانت لذلك الإنسان ورقة من رقة لونه وحسن هيئة جملة وجهه وأشكال أعضائه الظاهرة أو بعض ذلك، وكانت في مع ذلك معان لطيفة تشينه وتقبح صورته كتباين أعضائه أو آثار تكون في وجهه تقبح صورته، فإن البصر إذا لمح الصورة التي بهذه الصفة لمحة خفيفة والتفت عنها في الحال فإنه يدرك محاسنها في حال ملاحظتها ولا يدرك المعاني اللطيفة التي تكون فيها التي تشينها، لأن هذه المعاني ليس تدرك في لمح البصر. وإذا لمح البصر المبصر الذي بهذه الصفة فإنه يدركه حسناً، وهو مع ذلك قبيح. وكذلك جميع المبصرات من الجمادات والحيوانات والنبات، إذا كانت فيها معان ظاهرة مستحسنة ومعان لطيفة مستقبحة، فإن البصر إذا لمحها لمحاً ولم يتمكن من تأملها تأملاً صحيحاً فإنه يدركها مستحسنة وهي مع ذلك مستقبحة.
وكذلك إن كان في المبصر معان ظاهرة مستقبحة ومعان لطيفة مستحسنة، ولمح البصر المبصر الذي بهذه الصفة لمحة خفيفة، فإنه يدركه مستقبحاً ولا يدرك محاسنه. وإذا أدرك البصر المبصر المستقبح حسناً فهو غالط في حسنه وإذا أدرك المبصر المستحسن قبيحاً فهو غالط في قبحه.
وقد يعرض هذا الغلط بعينه للبصر إذا كان البصر ينظر من باب أو من فرجة، وكان المبصر متحركاً أو مجتازاً بذلك الباب أو الفرجة وأدركه البصر في مقدار الزمان الذي قطع فيه المبصر عرض ذلك الباب أو الفرجة ولم يتمكن من تأمله، فإنه يدرك المستقبح الذي على هذه الصفة التي وصفناها حسناً ويدرك المستحسن قبيحاً. وكذلك إذا كان البصر متحركاً والمبصر ساكناً أو متحركاً إلى ضد جهة حركة البصر ولمح البصر المبصر في حال حركته من باب أو من فرجة.
وكذلك أيضاً إذا لمح البصر مبصرين متشابهين في معان ظاهرة ويختلفان في معان لطيفة، ولم يتأملها تأملاً صحيحاً بل لمحهما لمحاً خفيفاً ثم أعرض عنهما، فإنه يدرك ذينك المبصرين متشابهين ولا يحس باختلافهما. وإن كانا يختلفان في المعاني الظاهرة ويتشابهان في المعاني الخفية فإن البصر يدركهما مختلفين ولا يحس بتشابههما. وإذا أدرك البصر المبصرين المختلفين بوجه من الوجوه متشابهين على الإطلاق فهو غالط في تشابههما، وإذا أدرك المتشابهين بوجه من الوجوه مختلفين على الإطلاق فهو غالط في اختلافهما.
والغلط في الحسن وفي القبح وفي التشابه وفي الاختلاف هي أغلاط في القياس لأن هذه المعاني تدرك بالقياس. وعلة هذه الأغلاط هي خروج الزمان الذي يدرك فيه البصر كل واحد من هذه المبصرات عن عرض الاعتدال، لأن البصر إذا أدرك هذه المبصرات وتمكن من تأملها وتصفح المعاني التي فيها فإنه يدرك كل واحد منها على ما هو عليه، فيدرك الحسن حسناً والقبيح قبيحاً والمتشابه متشابهاً والمختلف مختلفاً، ولا يعرض له الغلط في يء من المعاني التي فيها، إذا كانت المعاني الباقية التي في تلك المبصرات في عرض الاعتدال.
فعلى هذه الصفات وأمثالها يكون غلط البصر في القياس من أجل خروج الزمان الذي فيه يدرك البصر المبصر عن عرض الاعتدال.

.غلط البصر من أجل خروج صحة البصر عن عرض الاعتدال:

فأما كيف يكون غلط البصر في القياس من أجل خروج صحة البصر عن عرض الاعتدال فإنه كالبصر الذي به عشى أو به مرض أو هو ضعيف في الأصل، إذا نظر إلى مبصرين على بعدين متساويين، وكان ذانك المبصران متفرقين، وكان بعدهما بعداً مقتدراً، وكان أحد المبصرين أبيض نقي البياض وكان الآخر مظلم اللون، وكان الضوء الذي عليهما متساوياً، فإن البصر ربما ظن بالمبصر الأبيض الذي بهذه الصفة أنه أقرب من المظلم اللون ويظن بالمبصر المظلم اللون أنه أبعد، وإن كان بعداهما من الأبعاد المعتدلة وكان من أبعدها، وخاصة إذا كان المبصران مرتفعين عن الأرض وكان بعداهما يسامت سطح الأرض. وذلك لأن البصر الضعيف ليس يدرك ما يدركه إدراكاً صحيحاً، والقوة المميزة تحس بهذا المعنى من البصر الضعيف والمعلول. وتساوي البعدين إنما يدركه البصر من إدراكه لمقدار كل واحد من البعدين ومن قياس أحد البعدين بالآخر، فهو يدرك تساوي البعدين من قياس فيه بعد. والمبصر النقي البياض يكون أبين من المبصر المظلم اللون، والمبصر القريب من البصر يكون أبين من المبصر البعيد من البصر، وبيان الأبيض وخفاء المظلم اللون يدركان بمجرد الحس، وما يدرك بمجرد الحس يكون أظهر عند الحس مما يدرك بالقياس.
فإذا أدرك البصر المبصرين اللذين بهذه الصفة وأدرك بعديهما وأدرك اختلاف بيانهما فإنه يغلب اختلاف البيان الذي يدركه بمجرد الحس على ما يدركه بالقياس لأنه أظهر والحس به أوثق. وإذا كانت القوة المميزة تدرك أن ما يدركه البصر الضعيف هو إدراك غير صحيح كانت مما هو أظهر عند ذلك البصر وأقرب إلى الحس فاولا في الحس أشد ثقة منها بما هو أبعد في الحس وبما ليس يدرك إلا بعد تأمل وقياس. فالبصر الضعيف يدرك المبصر النقي البياض كأنه أقرب من المبصر المظلم اللون إذا كانا متساويي البعد ولم يتحقق مقدار بعديهما، لأنه يدركه أبين ولأنه يغلب ما كان أظهر في الحس. وإذا أدرك البصر المبصرين المتساويي البعد مختلفي البعد فهو غالط في كل واحد منهما أو في بعد أحدهما.
وقد يعرض هذا الغلط بعينه للبصر الصحيح أيضاً إذا كان المبصران اللذان بهذه الصفة على بعد متفاوت ولم يتيقن البصر مقدار بعديهما. وذلك لأنه إذا لم يتيقن البصر بعدي المبصرين الذين بهذه الصفة ظن بالأبيض أنه أقرب من أجل أنه أبين.
وقد يعرض هذا الغلط للبصر الصحيح أيضاً من البعد المعتدل إذا لم يلحظ البعد ولم يتيقن مقدار البعد ولمح المبصرين الذين بهذه الصفة لمحة يسيرة والتفت عنهما في الحال، إذا أدركهما في الليل أو في موضع مغدر. فيكون الغلط في بعدي المبصرين اللذين بهذه الصفة غلطاً في القياس لأن البعد واختلاف الأبعاد ليس تدرك إلا بالقياس. ويكون العلة في هذا الغلط للبصر الصحيح هو تفوت البعد أو ضعف الضوء أو قصر الزمان. ويكون علة هذا الغلط في البصر الضعيف، إذا لم يكن بعد المبصرين بعداً متفاوتاً، وكانت المعاني الباقية التي في ذينك المبصرين التي بها يتم إدراك المبصرات على ما هي عليه في عرض الاعتدال، هو ضعف البصر.
الوضع وقد يعرض الغلط في الوضع أيضاً من أجل خروج البصر عن عرض الاعتدال. وذلك أن البصر الضعيف والمؤوف إذا أدرك مبصراً من المبصرات، وكان سطح ذلك المبصر مائلاً على خطوط الشعاع، ولم يكن ذلك المبصر على وجه الأرض بل كان مرتفعاً عن الأرض، وكان ميله ميلاً يسيراً، فإن البصر لا يحس بميله وإن كان بعده مسامتاً لوجه الأرض بل يدركه كأنه مواجه. وذلك لأن الميل إنما يدركه البصر من إدراكه لاختلاف بعدي طرفي المبصر، وإذا كان المبصر مرتفعاً عن الأرض وكان ميله يسيراً فإن البصر ليس يدرك اختلاف بعدي طرفيه إلا من قياس بعيد وبتأمل لطيف مستقصى، وليس يكون اختلاف بعدي طرفيه ظاهراً للحس إذا كان ميله يسيراً، والبصر الضعيف ليس يدرك المعاني اللطيفة وليس يدرك إلا ما كان ظاهراً، واختلاف بعدي طرفي اليسير الميل إذا كان مرتفعاً عن الأرض قل ما يدركه البصر الضعيف وإن أدرك وجه الأرض المسامت لبعد ذلك المبصر، والبصر الصحيح ليس يدرك هذا المعنى إلا بتأمل مستقصى وربما عرض له الغلط مع ذلك في ميل المبصر، وليس يدرك البصر الضعيف ميل المبصر إذا كان سير الميل وكان مرتفعاً عن الأرض، فهو يدرك ما هذه حاله من المبصرات كأنه مواجه.
وإذا أدرك البصر المبصر المائل مواجهاً فهو غالط في وضعه. ويعرض من هذا الغلط ان يكون ما يدركه البصر من عظم المبصر الذي بهذه الصفة على خلاف ما هو عليه، لأن المبصر إذا أدرك البصر ميله أدرك مقداره أعظم من مقدار المبصر المواجه الذي يوتر زاوية مثل الزاوية التي يوترها ذلك المبصر المائل، فإذا لم يحس البصر بميل المبصر وظنه مواجهاً فهو يدرك عظمه على مثل عظم المبصر المواجه الذي يوتر زاوية مثل تلك الزاوية، فهو يدرك مقداره أصغر من مقداره الحقيقي.
الشكل وقد يعرض الغلط في شكل المبصر أياً من أجل خروج البصر عن عرض الاعتدال. وذلك أن المبصر إذا كانت له زوايا صغار وزوائد صغار فإن البصر الضعيف لا يدرك تلك الزوايا الصغار وتلك الزوائد. وإذا لم يدرك زوايا المبصر والزوائد التي تكون فيه فهو يدرك شكله على خلاف ما هو عليه ويكون غالطاً في شكله. وكذلك إذا كان في المبصر تحديب يسيراً أو تقعير يسير فإن البصر الضعيف لا يدرك ذلك التحديب اليسير ولا ذلك التقعير اليسير. وإذا لم يدرك التحديب والتقعير كان غالطاً في شكل ذلك السطح.
التفرق والاتصال وكذلك قد يعرض الغلط في التفرق والاتصال أيضاً من أجل ضعف البصر وتغيره، لأن البصر الضعيف والمؤوف ليس يدرك صورة المبصر إدراكاً صحيحاً. فإذا كان في سطح المبصر خطوط سوداء مظلمة اللون فإن البصر ربما ظن بتلك الخطوط أنها شقوق. وإذا كانت تلك الخطوط تقطع جميع عرض الجسم فربما ظن البصر بذلك الجسم أنه اثنان أو جماعة بحسب عدد تلك الخطوط، وأن السواد الذي بينهما الذي هو الخطوط السود هو تفرق بين تلك الأجسام. وكذلك إذا كانت أجسام متضامة وكان فيها تفرق خفي فإن البصر الضعيف والمؤوف لا يدرك التفرق الخفي الذي بين تلك الأجسام. وإذا لم يدرك التفرق الخفي الذي بين تلك الأجسام فهو يدرك تلك الأجسام كأنها جسم واحد متصل، فيكون غالطاً في الاتصال وغالطاً في العدد جميعاً.
العدد قد يعرض الغلط للبصر في العدد من أجل خروج البصر عن عرض الاعتدال على وجه آخر أيضاً، وذلك إذا كان في البصر حول. فإن الناظر إذا كان بإحدى عينيه حول أو بجميعهما ونظر إلى المبصرات فإنه في الأكثر يدرك المبصر الواحد اثنين، وخاصة إذا كان الحول في إحدى العينين. وذلك أن الحول هو تغير وضع البصر، فإذا تغير وضع أحد البصرين عن الوضع الطبيعي فإن الناظر إذا نظر إلى مبصر من المبصرات بالبصرين جميعاً لم تلتق الشعاعات المختلفة الوضع. وقد تبين في الفصل الأول من هذه المقالة أنه إذا التقى على المبصر شعاعات مختلفة الوضع فإنه يدرك اثنين وهو واحد، وذلك لأن صورته تحصل في موضعين مختلفي الوضع من البصرين وتنتهي إلى موضعين مفترقين من موضع الإحساس الأخير، فتحصل صورته في موضع الإحساس الأخير صورتين ويدرك المبصر الواحد من أجل ذلك اثنين. فإذا كان بإحدى العينين حول وكانت الأخرى سليمة فإن الناظر يدرك كل واحد من المبصرات في أكثر الأحوال اثنين. وإذا كان الحول في العينين جميعاً ولم يكن وضعهما مع ذلك متشابهاً فإن حالهما يكون أيضاً كمثل الحول الذي يكون في إحدى العينين. وإن كان الحول في العينين جميعاً وكان وضعهما وضعاً متشابهاً إذا تحركتا اختلف وضعهما، فأدركا في تلك الحال المبصر الواحد اثنين في الأكثر. وذلك أن الببصرين إذا لم يكن وضعهما الوضع الطبيعي فليس يكون وضعهما عند حركتهما أبداً وضعاً متشابهاً، بل كان وضعهما عند الحركة متشابهاً، وربما اختلف وضعهما من أجل أن نصبتهما إذا كانا خارجين عن الوضع الطبيعي ليس تكون نصبة معتدلة فليس يلزمان أبداً وضعاً متشابهاً عند الحركة.
فإذا أدرك الأحول مبصرات كثيرة في وقت واحد فإنه إما أن يدرك كل واحد منها اثنين وإما أن يدرك بعضها أو واحداً منها اثنين، وهذه حال الأحول في أكثر الأحوال. وإذا أدرك البصر المبصرات على هذه الصفة وأدرك كل واحد منها اثنين، وأدرك بعضها أو واحداً منها اثنين، فهو غالط في عددها. فالبصر إذا كان به حول وكان الإبصار ببصرين فإنه يعرض له الغلط في عدد المبصرات دائماً. والغلط في الوضع وفي الشكل وفي العظم وفي التفرق وفي الاتصال وفي العدد هي أغلاط في القياس، لأن هذه المعاني تدرك بالقياس. وعلة هذه الأغلاط إذا كانت على الصفات التي وصفناها هي ضعف البصر، لأن البصر الصحيح ليس يعرض له الغلط في شيء من هذه المعاني إذا كانت المعاني الباقية التي في المبصرات التي بهذه الصفة في عرض الاعتدال.
الحركة والسكون وقد يعرض الغلط في الحركة أيضاً من أجل خروج البصر عن عرض الاعتدال. وذلك أن الإنسان إذا دار دوراناً سريعاً مرات كثيرة ثم وقف فإنه يرى جميع ما يدركه من المبصرات في تلك الحال كأنها تدور، وهي مع ذلك ساكنة. وإنما يعرض له ذلك لأن الروح التي في البصر في تلك الحال تتحرك في موضعها وتدور عند دوران الإنسان وتتموج، فإذا وقف الإنسان الذي بهذه الصفة من بعد الدوران السريع بقيت الحركة في الروح الباصرة بعد سكون الإنسان ساعة من الزمان ما تبقى الحركة في الجسم الذي يحركه الإنسان حركة مستديرة ثم أمسك عنه بقيت الحركة في ذلك الجسم زماناً، فيكون ذلك الجسم يتحرك من غير محرك بل بما حصل فيه من تحريك المحرك، كالدوامة وما جرى مجراها. كذلك تكون الروح الباصرة بعد سكون الإنسان من الدوران، فتبقى الحركة فيها زماناً. وما دامت الحركة فيها فالناظر يرى المبصرات كأنها تتحرك وتدور، ثم إذا سكنت الحركة التي في الروح الباصرة سكن ذلك الدوران الذي يدركه البصر في تلك المبصرات. وكذلك يكون حال الإبصار إذا عرض للإنسان المرض الذي يسمى الدوار.
فإذا دار الإنسان دوراناً شديداً أو عرض له المرض الذي يسمى الدوار عرض في الروح الباصرة حركة مستديرة. وإذا عرض في الروح الباصرة حركة مستديرة بعد أن كانت ساكنة فقد خرج البصر عن حد اعتداله. وإذا عرض للروح حركة مستديرة ولم تكن ساكنة على حالها الطبيعية فإنها تدرك المبصرات كأنها متحركة حركة سريعة مستديرة، لأن صور المبصرات التي تحصل فيها في تلك الحال تكون متنقلة في أجزاء الروح الباصرة من أجل حركة الروح، ويكون انتقالها في جسم الروح الباصرة على استدارة من أجل حركتها على استدارة. وإذا تحركت الصورة في أجزاء الروح الباصرة على استدارة كانت بمنزلة حركة صورة المبصر الذي له حركة مستديرة في أجزاء الروح الباصرة إذا كانت ساكنة، فإن المبصر المتحرك حركة مستديرة تتحرك صورته في أجزاء الروح الباصرة حركة مستديرة. فإدراك البصر المبصرات متحركة على استدارة مع سكونها عند الدوران السريع وعند المرض المسمى الدوار إنما هو لحركة الروح الباصرة وحركة صور المبصرات في أجزاءها من أجل حركتها.
وإذا أدرك البصر المبصرات الساكنة متحركة في عقيب الدوران وفي حال المرض المسمى الدوار فهو غالط فيما يدركه من تلك المبصرات ويكون غلطه غلطاً في القياس لأن الحركة تدرك بالقياس. وعلة هذا الغلط هو خروج البصر عن عرض الاعتدال. لأن البصر الصحيح ليس يدرك شيئاً من المبصرات متحركاً على هذه الصفة إذا كانت المعاني الباقية التي في تلك المبصرات في عرض الاعتدال.
وقد يعرض الغلط في السكون أيضاً من أجل ضعف البصر وتغيره. وذلك أن المبصر إذا كان يتحرك حركة مستديرة، وكان ذلك المبصر متشابه اللون ومستدير الشكل، وكانت أجزاء سطحه متشابهة، فإن البصر لا يدرك حركته إذا كان البصر ضعيفاً وإن كانت الحركة المستديرة بطيئة. وذلك لأن الحركة المستديرة ليس يدركها البصر إلا من تبدل أجزاء المتحرك بالقياس إلى البصر أو بالقياس إلى جسم آخر أو من قياس جزء من المتحرك إلى أجسام أخر. وإذا كان المتحرك مستدير الشكل وكان سطحه متشابه اللون ومتشابه الصورة فإن أجزاءه وتبدل أجزائه ليس يدركها البصر الصحيح إلا بتأمل شديد مستقصى إذا كانت الحركة بطيئة.
فأما إذا كانت حركة المبصر الذي بهذه الصفة حركة سريعة وشديدة السرعة فليس يدركها البصر وإن كان صحيحاً. فإن كان المبصر متشابه الصورة فليس يظهر للبصر الصحيح أجزاؤه ولا تبدل أجزائه إلا من تأمل شديد مستقصى ومن إدراكه للأجزاء اللطيفة التي تكون في ذلك المبصر. وليس يدرك البصر الحركة المستديرة إن لم يتميز له شيء من أجزاء المبصر. فإذا كان البصر ضعيفاً وكانت أجزاء المبصر متشابهة فليس تتميز له أجزاء المبصر. وإذا لم تتميز له أجزاء المبصر وكان المبصر متشابه الأجزاء فليس يدرك تبدل أجزائه ولا مسامتة الجزء من أجزائه لغيره من المبصرات. وإذا لم يدرك البصر أجزاء المبصر المتحرك ولم يدرك تبدل أجزاء المبصر فليس يدرك حركته إذا كانت حركته مستديرة وكان المتحرك لازماً لموضع واحد.
وهذا الغط يعرض للبصر الضعيف دائماً إذا نظر إلى الرحى وهي تدور، فإن هذه المعاني تكون جميعها في الرحى. فالبصر الصحيح يدرك حركة الرحى من إدراكه لتبدل أجزائها، وإدراكه لتبدل أجزائها إنما هو من إدراكه لأجزائه الصغار. والبصر الضعيف لا يدرك حركة الرحى إذا كان متشابه الأجزاء، لأمنه لا يدرك أجزاءه الصغار ولا يدرك تبدلها. فالبصر الضعيف والمؤوف إذا نظر إلى الرحى وهي تتحرك وتدور فهو يدركها كأنها ساكنة، فيكون غالطاً في سكونها، ويكون غلطه غلطاً في القياس لأن السكون يدرك بالقياس. ويكون علة هذا الغلط هو ضعف البصر، لأن البصر الصحيح يدرك حركة الرحى على ما هي عليه إذا كانت المعاني الباقية التي في تلك الرحى في عرض الاعتدال.
الخشونة والملاسة والشفيف والكثافة وقد يعرض الغلط في الخشونة والملاسة والشفيف والكثافة أيضاً من أجل خروج البصر عن عرض الاعتدال. وذلك أن البصر الضعيف والمأوف ليس يدرك المعاني اللطيفة التي تكون في المبصر، فإن كان المبصر خشونة يسيرة فليس يدركها البصر الضعيف، وإذا لم يدرك البصر الخشونة التي في سطح المبصر فهو يظنه أملس، وإذا أدرك البصر المبصر الخشن أملس فهو غالط في ملاسته.
وكذلك إذا نظر البصر الضعيف إلى مبصر أملس، وكان ذلك المبصر يشبه مبصراً من المبصرات الخشنة التي يعرفها ذلك الناظر ويعرف خشونتها، فإنه ربما ظن بذلك المبصر الأملس أنه خشن. وإذا ظن بالمبصر الأملس أنه خشن فهو غالط في خشونته.
وكذلك إذا نظر البصر الضعيف والمأوف إلى مبصر مشف، وكان ذلك المبصر قوي الشفيف وفيه مع ذلك بعض الكثافة، فإن البصر الضعيف ليس يدرك شفيفه على ما هو عليه. وذلك لأنه يدرك الكثافة اليسيرة في ذلك المبصر أغلظ مما هي لضعفه. وإذا أدرك كثافة ذلك المبصر أغلظ مما هي فهو يدرك شفيفه أقل مما هو عليه. وإذا أدرك شفيف المبصر أقل مما هو عليه فهو غالط في شفيفه.
وإذا كان الشفيف الذي في المبصر يسيراً، وكان المبصر متلوناً بلون قوي، فإن البصر الضعيف والمأوف لا يدرك الشفيف الذي في ذلك المبصر، وليس يدرك الشفيف اليسير إلا البصر القوي الصحيح. وإذا لم يدرك البصر الضعيف الشفيف الذي في المبصر اليسير الشفيف فهو يدركه كثيفاً، لأن يشبهه بأمثاله من المبصرات الكثيفة المتلونة بذلك اللون. وإذا أدرك المشف كثيفاً فهو غالط في كثافته.
والغلط في الخشونة وفي الملاسة وفي الشفيف وفي الكثافة على الصفات التي وصفناها هي أغلاط في القياس لأن هذه المعاني تدرك بالقياس. وعلى هذه الأغلاط على هذه الوجوه هي ضعف البصر وخروجه عن اعتدال صحته، لأن البصر الصحيح يدرك جميع هذه المعاني في المبصرات على ما هي عليه إذا كانت المعاني الباقية التي في تلك المبصرات في عرض الاعتدال.
الظل والظلمة وقد يعرض الغلط في الظل أيضاً من أجل خروج البصر عن عرض الاعتدال. وذلك أن المبصر إذا كان بعضه ذا لون مسفر وبعضه ذا لون قتم منكسر، وأشرق الضوء على ذلك المبصر، فإن الضوء يكون في سطح ذلك المبصر مختلف الصورة من أجل اختلاف اللون الذي في ذلك المبصر. فإذا أدرك البصر الضعيف المبصر الذي بهذه الصفة فإنه ربما ظن بالمواضع المنكسفة القتمة أنها أظلال لانكسار الضوء الذي فيها. وإذا ظن البصر بالمبصر المضيء الذي لا ظل فيه أنه مستظل فهو غالط فيما يظنه من الظل.
وكذلك إذا أدرك البصر الضعيف الجدران، وكان بعضها أسود وبعضها أبيض، وكان جميعها مضيئاً بضوء معتدل، فإنه ربما ظن بالمواضع السود أنها مواضع مظلمة. وإذا ظن بالجدار الأسود أنه موضع مظلم فهو غالط فيما يظنه من الظلمة.
والغلط في الظل وفي الظلمة وهما غلطان في القياس لأن الظل والظلمة يدركان بالقياس. وعلة هذين الغلطين على الصفة التي وصفناها هو ضعف البصر، لأن المبصرات التي بهذه الصفة إذا أدركها البصر الصحيح فإنه يدركها على ما هي عليه ولا يعرض له الغلط فيها إذا كانت المعاني الباقية التي في تلك المبصرات في عرض الاعتدال.
الحسن والقبح والتشابه والاختلاف وقد يعرض الغلط في الحسن وفي القبح وفي التشابه والاختلاف أيضاً من أجل خروج البصر عن عرض الاعتدال. وذلك أن المبصر إذا كانت المعاني الظاهرة التي فيه مستحسنة وكنت فيه معان لطيفة مستقبحة فإن البصر الضعيف والمأوف يدرك ذلك المبصر حسناً، لأن البصر الضعيف يدرك المعاني الظاهرة ولا يدرك المعاني اللطيفة. وكذلك إذا كانت المعاني الظاهرة التي في المبصر قبيحة وكانت فيه معان لطيفة مستحسنة ومحسنة لصورته فإن البصر الضعيف والمأوف يدرك المبصر الذي بهذه الصفة قبيحاً ولا يحس بحسنه، لأنه يدرك المعاني الظاهرة التي هو بها مستقبح ولا يدرك معانيه اللطيفة التي هو بها مستحسن.
وكذلك إذا أدرك البصر الضعيف والمأوف مبصرين، وكان المبصران يتشابهان في المعاني الظاهرة ويختلفان في معاني لطيفة، فإن البصر الضعيف والمأوف يدرك المبصرين اللذين بهذه الصفة متشابهين ولا يحس باختلافهما. وكذلك إذا كان المبصران مختلفين في المعاني الظاهرة ومتشابهين في معان لطيفة فإن البصر الضعيف والمأوف يدرك المبصرين اللذين على هذه الصفة متشابهين ولا يحس باختلافهما. وكذلك إذا كان المبصرات مختلفين في المعاني الظاهرة متشابهين في معان لطيفة فإن البصر الضعيف والمأوف يدرك المبصرين اللذين على هذه الصفة مختلفين ولا يحس بتشابههما.
وإذا أدرك البصر المبصر القبيح في معنى من المعاني حسناً على الإطلاق فهو غالط في حسنه. وإذا أدرك الحسن بوجه من الوجوه قبيحاً على الإطلاق فهو غالط في قبحه. وكذلك إذا أدرك البصر المبصرين المختلفين بوجه من الوجوه متشابهين على الإطلاق فهو غالط في تشابههما. وإذا أدرك المبصرين المتشابهين بوجه من الوجوه مختلفين على الإطلاق فهو غالط في اختلافهما. والغلط في الحسن والقبح وفي التشابه وفي الاختلاف هي أغلاط في القياس لأن هذه المعاني تدرك بالقياس، ولأن الأغلاط التي بهذه الصفة إنما هي من تعويل البصر على المعان الظاهرة فقط وسكونه مع ذلك إلى نتائجها. وعلة هذه الغلاط على الوجوه التي وصفناها هي خروج البصر عن عرض الاعتدال، لأن البصر الصحيح يدرك جميع هذه المعاني على ما هي عليه إذا كانت المعاني الباقية التي في المبصرات التي بها يتم إدراك المبصرات على ما هي عليه في عروض الاعتدال.
فعلى هذه الصفات وأمثالها يكون غلط البصر في القياس من أجل خروج صحة البصر عن عرض الاعتدال. ومن جميع ما فصلناه في جميع هذه الفصول يتبين كيف يكون غلط البصر في القياس بحسب كل واحدة من العلل التي من أجلها يعرض للبصر الغلط في جميع المعاني التي تدرك بالقياس.